فصل: فَصْـــل: في نذر اللجاج والغضب

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فَصْـــل

فأما الحلف بالنذر الذي هو نذر اللجاج والغضب؛ مثل أن يقول‏:‏ إن فعلت كذا فعلي الحج،أو فمالي صدقة،أو فعلي صيام ـ يريد بذلك أن يمنع نفسه عن الفعل ـ أو أن يقول‏:‏ إن لم أفعل كذا فعلي الحج ونحوه، فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجزئه كفارة يمين من أهل مكة، والمدينة، والبصرة، والكوفة، وهو قول فقهاء الحديث ـ كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وغيرهم ـ وهذا إحدي الروايتين عن أبي حنيفة وهو الرواية المتأخرة عنه‏.‏

/ثم اختلف هؤلاء فأكثرهم قالوا‏:‏ هو مخير بين الوفاء بنذره، وبين كفارة يمين، وهذا قول الشافعي، والمشهور عن أحمد‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل عليه الكفارة عينًا، كما يلزمه ذلك في اليمين بالله، وهو الرواية الأخري عن أحمد، وقول بعض أصحاب الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة في الرواية الأخري وطائفة‏:‏ بل يجب الوفاء بهذا النذر، وقد ذكروا أن الشافعي سئل عن هذه المسألة بمصر فأفتي فيها بالكفارة، فقال له السائل‏:‏ يا أبا عبد الله، هذا قولك‏؟‏ قال‏:‏ قول من هو خير مني‏:‏ عطاء بن أبي رباح، وذكروا أن عبد الرحمن بن القاسم حنث ابنه في هذه اليمين، فأفتاه بكفارة يمين بقول الليث بن سعد، وقال‏:‏ إن عدت أفتيتك بقول مالك، وهو الوفاء به؛ ولهذا يفرع أصحاب مالك مسائل هذه اليمين علي النذر، لعمومات الوفاء بالنذر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه‏)‏؛ ولأنه حكم جائز معلق بشرط فوجب عند ثبوت شرطه كسائر الأحكام‏.‏

والقول الأول هو الصحيح‏.‏ والدليل عليه ـ مع ما سنذكره إن شاء الله من دلالة الكتاب والسنة ـ ما اعتمده الإمام أحمد وغيره‏.‏ قال أبو بكر الأثرم في مسائله‏:‏ سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل قال‏:‏ ما له في رتاج الكعبة‏؟‏ قال كفارة يمين، واحتج بحديث عائشة، قال‏:‏ وسمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل يحلف بالمشي إلي بيت الله، أو الصدقة بالملك، ونحو ذلك من الأيمان، فقال‏:‏/ إذا حنث فكفارة، إلا أني لا أحمله علي الحنث، ما لم يحنث قيل له‏:‏ تفعل‏.‏ قيل لأبي عبد الله‏:‏ فإذا حنث كفر‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قيل له‏:‏ أليس كفارة يمين‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ وسمعت أبا عبد الله يقول في حديث ليلي بنت العجماء حين حلفت بكذا وكذا، وكل مملوك لها حر، فأفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفتيا فيمن حلف بعتق جارية وأيمان، فقال‏:‏ أما الجارية فتعتق‏.‏ وقال الأثرم‏:‏ حدثنا الفضل ابن دكين، ثنا حسن عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة، قالت‏:‏ من قال‏:‏ مالي في ميراث الكعبة، وكل مالي فهو هدي، وكل مالي في المساكين، فليكفر يمينه‏.‏

وقال حدثنا عارم بن الفضل، ثنا معمر بن سليمان قال‏:‏ قال أبي‏:‏ حدثنا بكر بن عبد الله، أخبرني أبو رافع، قال‏:‏ قالت مولاتي ليلي بنت العجماء‏:‏ كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية، وهي نصرانية إن لم تطلق امرأتك، أو تفرق بينك وبين امرأتك، قال‏:‏ فأتيت زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذكرت زينب، قال‏:‏ فأتيتها، فجاءت معي إليها، فقالت‏:‏ في البيت هاروت وماروت‏؟‏‏!‏ قالت‏:‏ يازينب، جعلني الله فداك، إنها قالت‏:‏ كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقالت‏:‏ يهودية، ونصرانية‏!‏ خلي بين الرجل وبين / امرأته، فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت إليها فأتتها، فقالت‏:‏ يا أم المؤمنين، جعلني الله فداك، إنها قالت‏:‏ كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقالت‏:‏ يهودية ونصرانية‏!‏ خلي بين الرجل وبين امرأته قال‏:‏ فأتيت عبد الله بن عمر، فجاء معي إليها، فقام علي الباب فسلم، فقال‏:‏ أمن حجارة أنت‏؟‏ أم من حديد أنت‏؟‏ أم من أي شيء أنت‏؟‏ أفتتك زينب، وأفتتك أم المؤمنين، فلم تقبلي فتياها‏؟‏ قالت‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، جعلني الله فداك إنها قالت‏:‏ كل مملوك لها حر، وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية‏.‏ فقال‏:‏ يهودية ونصرانية‏!‏ كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وبين امرأته‏.‏

وقال الأثرم‏:‏ حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا عمران، عن قتادة، عن زرارة بن أبي أوفي، أن امرأة سألت ابن عباس أن امرأة جعلت بردها عليها هديا إن لبسته، فقال ابن عباس‏:‏ في غضب، أم في رضي‏؟‏ قالوا‏:‏ في غضب‏.‏ قال‏:‏ إن الله تبارك وتعالي لا يتقرب إليه بالغضب، لتكفر عن يمينها‏.‏ وقال‏:‏ حدثني ابن الطباع، ثنا أبو بكر بن عياش‏.‏ عن العلاء بن المسيب، عن يعلي بن النعمان، وعكرمة، عن ابن عباس‏:‏ سئل عن رجل جعل ماله في المساكين، فقال‏:‏ امسك عليك مالك، وانفقه علي عيالك، واقض به دينك، وكفر عن يمينك‏.‏

/وروي الأثرم عن أحمد حدثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج، سئل عطاء عن رجل قال‏:‏ علي ألف بدنة قال‏:‏ يمين‏.‏ وعن رجل قال‏:‏ علي ألف حجة، قال‏:‏ يمين‏.‏ وعن رجل قال‏:‏ مالي هدي، قال‏:‏ يمين‏.‏ وعن رجل قال‏:‏ مالي في المساكين، قال‏:‏ يمين‏.‏ وقال أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد، في الرجل يقول‏:‏ إن لم أفعل كذا وكذا فأنا محرم بحجة، قالا‏:‏ ليس الإحرام إلا علي من نوي الحج، يمين يكفرها‏.‏ وقال أحمد‏:‏ ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر‏.‏ عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏:‏ يمين يكفرها، وقال حرب الكرماني‏:‏ حدثنا المسيب بن واضح، ثنا يوسف بن أبي السفر، عن الأوزاعي، عن عطاء بن أبي رباح سألت ابن عباس عن الرجل يحلف بالمشي إلي بيت الله الحرام، قال‏:‏ إنما المشي علي من نواه، فأما من حلف في الغضب فعليه كفارة يمين‏.‏

وأيضًا، فإن الاعتبار في الكلام بمعني الكلام لا بلفظه، وهذا الحالف ليس مقصوده قربة لله، وإنما مقصوده الحض علي فعل أو المنع منه، وهذا معني اليمين، فإن الحالف يقصد الحض علي فعل أو المنع منه، ثم إذا علق ذلك الفعل بالله ـ تعالي ـ أجزأته الكفارة، فلا تجزئه إذا علق به وجوب عبادة، أو تحريم مباح بطريق الأولي؛ لأنه إذا علقه بالله ثم حنث كان موجب حنثه أنه قد هتك إيمانه بالله حيث لم يف بعهده، وإذا علق به وجوب فعل أو تحريمه فإنما يكون موجب حنثه ترك واجب أو فعل محرم،ومعلوم أن الحنث الذي / موجبه خلل في التوحيد أعظم مما موجبه معصية من المعاصي، فإذا كان الله قد شرع الكفارة لإصلاح ما اقتضي الحنث في التوحيد فساده ونحو ذلك وجبره فلأن يشرع لإصلاح ما يقتضي الحنث فساده في الطاعة أولي وأحري‏.‏

وأيضًا، فإنا نقول‏:‏ إن موجب صيغة القسم مثل موجب صيغة التعليق، والنذر نوع من اليمين ، وكل نذر فهو يمين، فقول الناذر‏:‏ لله علي أن أفعل‏.‏ بمنزلة قوله‏:‏ أحلف بالله لأفعلن، موجب هذين القولين التزام الفعل معلقًا بالله‏.‏ والدليل علي هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏النذر حلف‏)‏‏.‏ فقوله‏:‏ إن فعلت كذا فعلي الحج لله، بمنزلة قوله‏:‏ إن فعلت كذا فوالله لأحجن‏.‏ وطرد هذا أنه إذا حلف ليفعلن برًا لزمه فعله ولم يكن له أن يكفر، فإن حلفه ليفعلنه نذر لفعله، وكذلك طرد هذا أنه إذا نذرا ليفعلن معصية أو مباح فقد حلف علي فعلها، بمنزلة ما لو قال‏:‏ والله لأفعلن كذا، ولو حلف بالله ليفعلن معصية أو مباحًا لزمته كفارة يمين، فكذلك لو قال‏:‏ الله علي أن أفعل كذا‏.‏ ومن الفقهاء من أصحابنا وغيرهم من يفرق بين البابين‏.‏

 فَصْـــل

فأما اليمين بالطلاق، والعتاق في اللجاج والغضب ـ مثل أن يقصد بها حضًا أو منعًا أو تصديقًا أو تكذيبًا ـ كقوله‏:‏ الطلاق يلزمني لأفعلن / كذا، أو لا فعلت كذا، وإن فعلت كذا فعبيدي أحرار، أو إن لم أفعله فعبيدي أحرار‏.‏ فمن قال من الفقهاء المتقدمين‏:‏ إن نذر اللجاج والغضب يجب فيه الوفاء فإنه يقول هنا يقع الطلاق والعتاق أيضًا‏.‏

وأما الجمهور الذين قالوا في نذر اللجاج والغضب تجزئه الكفارة فاختلفوا هنا، مع أنه لم يبلغني عن أحد من الصحابة في الحلف بالطلاق كلام، وإنما بلغنا الكلام فيه عن التابعين ومن بعدهم؛ لأن اليمين به محدثة لم يكن يعرف في عصرهم‏.‏ ولكن بلغنا الكلام في الحلف بالعتق، كما سنذكره ـ إن شاء الله ـ فاختلف التابعون ومن بعدهم ـ في اليمين بالطلاق والعتاق، فمنهم من فرق بينه وبين اليمين بالنذر، وقالوا‏:‏ إنه يقع الطلاق والعتاق بالحنث ولا تجزئه الكفارة، بخلاف اليمين بالنذر، هذا رواية عوف عن الحسن، وهو قول الشافعي، وأحمد في الصريح المنصوص عنه، وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد، وغيرهم‏.‏ فروي حرب الكرماني، عن معتمر بن سليمان، عن عوف عن الحسن قال‏:‏ كل يمين وإن عظمت، ولو حلف بالحج والعمرة، وإن جعل ماله في المساكين، ما لم يكن طلاق امرأة في ملكه يوم حلف، أو عتق غلام في ملكه يوم حلف، فإنما هي يمين‏.‏ وقال إسماعيل بن سعيد‏:‏ سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يقول لابنه‏:‏ إن كلمتك فامرأتي طالق‏.‏ وعبدي حر، فقال‏:‏ لا يقوم هذا مقام اليمين، ويلزمه ذلك في الغضب والرضا‏.‏ وقال سليمان بن داود‏:‏ يلزمه الحنث في الطلاق والعتاق، وبه قال أبو خيثمة، قال / إسماعيل‏:‏ وأخبرنا أحمد ابن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن أبي حازم، أن امرأة حلفت بمالها في سبيل الله أو في المساكين، وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا، فسألت ابن عمر وابن عباس، فقالا‏:‏ أما الجارية فتعتق، وأما قولها في المال فإنها تزكي المال‏.‏

قال أبو إسحاق الجوزجاني‏:‏ الطلاق والعتق لا يحلان في هذا محل الأيمان، ولو كان المجري فيها مجري الأيمان، لوجب علي الحالف بها إذا حنث كفارة وهذا مما لا يختلف الناس فيه ألا كفارة فيها‏.‏

قلت‏:‏ أخبر أبو إسحاق بما بلغه من العلم في ذلك، فإن أكثر مفتي الناس في ذلك الزمان من أهل المدينة وأهل العراق أصحاب أبي حنيفة ومالك كانوا لا يفتون في نذر اللجاج والغضب إلا بوجوب الوفاء لا بالكفارة‏.‏ وإن أكثر التابعين مذهبهم فيها الكفارة، حتي إن الشافعي لما أفتي بمصر بالكفارة كان غريبًا بين أصحابه المالكية، وقال له السائل‏:‏ يا أبا عبد الله، هذا قولك‏؟‏ فقال‏:‏ قول من هو خير مني عطاء بن أبي رباح، فلما أفتي فقهاء الحديث كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وسليمان بن داود، وابن أبي شيبة، وعلي بن المديني ونحوهم في الحلف بالنذر بالكفارة، وفرق من فرق بين ذلك وبين الطلاق والعتاق لما سنذكره صار الذي يعرف قول هؤلاء وقول أولئك / لا يعلم خلافًا في الطلاق والعتاق، وإلا فسنذكر الخلاف ـ إن شاء الله تعالي ـ عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم‏.‏

وقد اعتذر الإمام أحمد عما ذكرناه عن الصحابة في كفارة العتق بعذرين؛ أحدهما‏:‏ انفراد سليمان التيمي بذلك‏.‏ والثاني‏:‏ معارضته بما رواه عن ابن عمر وابن عباس أن العتق يقع من غير تكفير‏.‏

وما وجدت أحدًا من العلماء المشاهير بلغه في هذه المسألة من العلم المأثور عن الصحابة ما بلغ أحمد‏.‏ قال المروذي‏:‏ قال أبو عبد الله‏:‏ إذا قال‏:‏ كل مملوك له حر، يعتق عليه إذا حنث؛ لأن الطلاق والعتق ليس فيهما كفارة‏.‏ وقال‏:‏ وليس يقول كل مملوك لها حر في حديث ليلي بنت العجماء ـ حديث أبي رافع ـ أنها سألت ابن عمر وحفصة وزينب وذكرت العتق فأمروها بكفارة إلا التيمي، وغيره لم يذكروا العتق، قال‏:‏ سألت أبا عبد الله عن حديث أبي رافع قصة امرأته وأنها سألت ابن عمر وحفصة فأمروها بكفارة يمين، قلت‏:‏ فيها المشي‏؟‏ قال‏:‏ نعم أذهب إلي أن فيه كفارة يمين‏.‏ وقال أبو عبد الله‏:‏ ليس يقول فيه كل مملوك إلا التيمي‏.‏ قلت‏:‏ فإذا حلف بعتق مملوكه، فحنث‏؟‏ قال‏:‏ يعتق، كذا يروي عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا‏:‏ الجارية تعتق، ثم قال‏:‏ ما سمعنا إلا من عبد الرزاق، عن معمر‏.‏ قلت‏:‏ فإيش إسناده‏؟‏ قال‏:‏ معمر، عن إسماعيل، عن عثمان بن أبي حازم عن ابن عمر وابن عباس، وقال‏:‏ إسماعيل بن أمية وأيوب بن موسي وهما مكيان‏.‏

/فقد فرق بين الحلف بالطلاق والعتق والحلف بالنذر بأنهما لا يكفران واتبع ما بلغه في ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه عارض ما روي من الكفارة عن ابن عمر وحفصة وزينب مع انفراد التيمي بهذه الزيادة‏.‏ وقال صالح بن أحمد‏:‏ قال أبي‏:‏ وإذا قال‏:‏ جاريتي حرة إن لم أصنع كذا وكذا، قال‏:‏ قال ابن عمر وابن عباس‏:‏ يعتق‏.‏ وإذا قال‏:‏ كل مالي في المساكين لم يدخل فيه جاريته، فيه كفارة، فإن ذا لا يشبهه ذا ألا تري أن ابن عمر فرق بينهما‏؟‏‏!‏ العتق والطلاق لا يكفران‏.‏

وأصحاب أبي حنيفة يقولون‏:‏ إذا قال الرجل‏:‏ مالي في المساكين أنه يتصدق به علي المساكين، وإذا قال‏:‏ مالي علي فلان صدقة، وفرقوا بين قوله‏:‏ إن فعلت كذا فمالي صدقة أو فعلي الحج، وبين قوله‏:‏ فامرأتي طالق، أو فعبدي حر‏:‏ بأنه هناك موجب القول وجوب الصدقة والحج لا وجود الصدقة والحج، فإذا اقتضي الشرط وجوب ذلك كانت الكفارة بدلاً عن هذا الواجب، كما يكون بدلاً عن غيره من الواجبات، كما كانت في أول الإسلام بدلاً عن الصوم الواجب، وبقيت بدلاً عن الصوم علي العاجز عنه وكما يكون بدلاً عن الصوم الواجب في ذمة الميت؛ فإن الواجب إذا كان في الذمة أمكن أن يخير بين أدائه وبين أداء غيره‏.‏ وأما العتق والطلاق فإن موجب الكلام وجودهما، فإذا وجد الشرط وجد العتق والطلاق، وإذا وقعا لم يرتفعا بعد وقوعهما؛ لأنهما لا يقبلان الفسخ، بخلاف ما لو قال‏:‏ إن فعلت كذا فلله علي أن أعتق، فإنه / هنا لم يعلق العتق، وإنما علق وجوبه بالشرط، فيخير بين فعل هذا الإعتاق الذي أوجبه علي نفسه وبين الكفارة التي هي بدل عنه؛ ولهذا لو قال‏:‏ إذا مت فعبدي حر‏.‏ عتق بموته من غير حاجة إلي الإعتاق، ولم يكن له فسخ هذا التدبير عند الجمهور إلا قولاً للشافعي، ورواية عن أحمد، وفي بيعه الخلاف المشهور‏.‏ ولو وصي بعتقه فقال‏:‏ إذا مت فاعتقوه كان له الرجوع في ذلك كسائر الوصايا، وكان له بيعه هنا وإن لم يجز بيع المدبر‏.‏

وذكر أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن محمد بن عرفة في تاريخه‏:‏ أن المهدي لما أُري ما أجمع عليه، رأي أهل بيته من العهد إلي ابنه عزم علي خلع عيسي ودعاهم إلي البيعة لموسي، فامتنع عيسي من الخلع‏.‏ وزعم أن عليه أيمانًا تخرجه من أملاكه، وتطلق نساؤه‏.‏ فأحضر له المهدي بن علاثة ومسلم بن خالد وجماعة من الفقهاء‏.‏ فأفتوه بما يخرجه عن يمينه، واعتاض عما يلزمه في يمينه بمال كثير ذكره، ولم يزل إلي أن خلع وبويع للمهدي، ولموسي الهادي بعده‏.‏

وأما أبو ثور فقال في العتق المعلق علي وجه اليمين‏:‏ يجزئه كفارة يمين، كنذر اللجاج والغضب؛ لأجل ما تقدم من حديث ليلي بنت العجماء التي أفتاها عبد الله بن عمر، وحفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولها‏:‏ إن لم أفرق بينك وبين امرأتك فكل مملوك لي محرر‏.‏وهذه القصة هي مما اعتمدها الفقهاء المستدلون في مسألة نذر/ اللجاج والغضب، لكن توقف أحمد وأبوعبيد عن العتق فيها لما ذكرته من الفرق‏.‏ وعارض أحمد ذلك‏.‏ وأما الطلاق فلم يبلغ أبا ثور فيه أثر فتوقف عنه، مع أن القياس عنده مساواته للعتق، لكن خاف أن يكون مخالفًا للإجماع‏.‏

والصواب أن الخلاف في الجميع ـ الطلاق وغيره ـ لما سنذكره ولو لم ينقل في الطلاق نفسه خلاف معين لكان فتيا من أفتي من الصحابة في الحلف بالعتاق بكفارة يمين من باب التنبيه علي الحلف بالطلاق؛ فإنه إذا كان نذر العتق الذي هو قربة لما خرج مخرج اليمين أجزأت فيه الكفارة، فالحلف بالطلاق ليس بقربة إما أن تجزئ فيه الكفارة أو لا يجب فيه شيء، علي قول من يقول‏:‏ نذر غير الطاعة لا شيء فيه‏.‏ ويكون قوله‏:‏ إن فعلت كذا، فأنت طالق‏.‏ بمنزلة قوله‏:‏ فعلي أن أطلقك، كما كان عند أولئك الصحابة ومن وافقهم قوله‏:‏ فعبيدي أحرار، بمنزلة قوله‏:‏ فعلي أن أعتقهم‏.‏

علي أني إلي الساعة لم يبلغني عن أحد من الصحابة كلام في الحلف بالطلاق وذلك ـ والله أعلم ـ لأن الحلف بالطلاق لم يكن قد حدث في زمانهم، وإنما ابتدعه الناس في زمن التابعين ومن بعدهم، فاختلف فيه التابعون ومن بعدهم‏.‏ فأحد القولين‏:‏ أنه يقع به، كما تقدم‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنه لا يلزم الوقوع‏.‏ ذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس، عن أبيه‏:‏ أنه / كان يقول‏:‏ الحلف بالطلاق ليس شيئًا‏.‏ قلت‏:‏ أكان يراه يمينًا‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري‏.‏ فقد أخبر ابن طاوس عن أبيه أنه كان لا يراه موقعًا للطلاق، وتوقف في كونه يمينًا يوجب الكفارة؛ لأنه من باب نذر ما لا قربة فيه‏.‏

وفي كون مثل هذا يمينًا خلاف مشهور، وهذا قول أهل الظاهر‏:‏ كداود، وأبي محمد ابن حزم لكن بناء علي أنه لايقع طلاق معلق ولا عتق معلق‏.‏ واختلفوا في المؤجل، وهو بناء علي ما تقدم من أن العقود لا يصح منها إلا ما دل نص أو إجماع علي وجوبه أو جوازه، وهو مبني علي ثلاث مقدمات يخالفون فيها‏.‏

أحدها‏:‏ كون الأصل تحريم العقود‏.‏ الثاني‏:‏ أنه لا يباح ما كان في معني النصوص‏.‏

الثالث‏:‏ أن الطلاق المؤجل والمعلق لم يندرج في عموم النصوص‏.‏

وأما المأخذ المتقدم من كون هذا كنذر اللجاج والغضب، فهذا قياس قول الذين جوزوا التكفير في نذر اللجاج والغضب، وفرقوا بين نذر التبرر ونذر الغضب، فإن هذا الفرق يوجب الفرق بين المعلق الذي يقصد وقوعه عند الشرط وبين المعلق المحلوف به الذي يقصد عدم وقوعه، إلا أن يصح الفرق المذكور بين كون المعلق هو الوجود أو الوجوب‏.‏ وسنتكلم عليه‏.‏

وقد ذكرنا أن هذا القول يخرج علي أصول أحمد من مواضع قد ذكرناها، وكذلك هو ـ أيضًا ـ لازم لمن قال في نذر اللجاج والغضب بكفارة / كما هو ظاهر مذهب الشافعي وإحدي الروايتين عن أبي حنيفة التي اختارها أكثر متأخري أصحابه، وإحدي الروايتين عن ابن القاسم التي اختارها كثير من متأخري المالكية؛ فإن التسوية بين الحلف بالنذر والحلف بالعتق هو المتوجه؛ ولهذا كان هذا من أقوي حجج القائلين بوجوب الوفاء في الحلف بالنذر، فإنهم قاسوه علي الحلف بالطلاق والعتاق، واعتقده بعض المالكية مجمعًا عليه‏.‏

وأيضًا، فإذا حلف بصيغة القسم كقوله‏:‏ عبيدي أحرار لأفعلن، أو نسائي طوالق لأفعلن، فهو بمنزلة قوله‏:‏ مالي صدقة لأفعلن، وعلي الحج لأفعلن‏.‏

والذي يوضح التسوية أن الشافعي إنما اعتمد في الطلاق المعلق علي فدية الخلع، قاله في البويطي ـ وهو كتاب مصري‏:‏ من أجود كلامه وذلك أن الفقهاء يسمون الطلاق المعلق بسبب طلاقًا بصفة، ويسمون ذلك الشرط صفة‏.‏ ويقولون‏:‏ إذا وجدت الصفة في زمان البينونة، وإذا لم توجد الصفة، ونحو ذلك، وهذه التسمية لها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا الطلاق موصوف بصفة ليس طلاقًا مجردًا عن صفة؛ فإنه إذا قال‏:‏ أنت طالق في أول السنة أو إذا طهرت، فقد وصف الطلاق بالزمان الخاص، فإن الظرف صفة للمظروف، وكذلك إذا قال‏:‏ إن أعطيتني ألفا فأنت طالق، فقد وصفه بعوضه‏.‏

/والثاني‏:‏ أن نحاة الكوفة يسمون حروف الجر ونحوها حروف الصفات، فلما كان هذا معلقا بالحروف التي قد تسمي حروف الصفات سمي طلاقا بصفة كما لو قال‏:‏ أنت طالق بألف‏.‏

والوجه الأول هو الأصل؛ فإن هذا يعود إليه؛ إذ النحاة إنما سمو حروف الجر حروف الصفات؛ لأن الجار والمجرور يصير في المعني صفة لما تعلق به، فإذا كان الشافعي وغيره إنما اعتمدوا في الطلاق الموصوف علي طلاق الفدية، وقاسوا كل طلاق بصفة عليه صار هذا كما أن النذر المعلق بشرط مذكور في قوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 75‏]‏ ومعلوم أن النذر المعلق بشرط هو نذر بصفة، فقد فرقوا بين النذر المقصود شرطه وبين النذر المقصود عدم شرطه الذي خرج مخرج اليمين، فلذلك يفرق بين الطلاق المقصود وصفه؛ كالخلع حيث المقصود فيه العوض والطلاق المحلوف به الذي يقصد عدمه وعدم شرطه؛ فإنه إنما يقاس بما في الكتاب والسنة ما أشبهه، ومعلوم ثبوت الفرق بين الصفة المقصودة وبين الصفة المحلوف عليها التي يقصد عدمها كما فرق بينهما في النذر سواء‏.‏

والدليل علي هذا القول‏:‏ الكتاب، والسنة، والأثر، والاعتبار ‏.‏

/أما الكتاب فقوله سبحانه‏:‏‏{‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1، 2‏]‏ فوجه الدلالة أن اللّه قال‏:‏ ‏{‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏، وهذا نص عام في كل يمين يحلف بها المسلمون أن اللّه قد فرض لها تحلة، وذكره ـ سبحانه ـ بصيغة الخطاب للأمة بعد تقدم الخطاب بصيغة الإفراد للنبي صلى الله عليه وسلم ، مع علمه ـ سبحانه ـ بأن الأمة يحلفون بأيمان شتي، فلو فرض يمين واحدة ليس لها تحلة لكان مخالفا للآية، كيف وهذا عام لم تخص منه صورة واحدة لا بنص ولا بإجماع بل هو عام عموما معنويا مع عمومه اللفظي؛ فإن اليمين معقودة توجب منع المكلف من الفعل، فشرع التحلة لهذه العقدة مناسب لما فيه من التخفيف والتوسعة‏.‏ وهذا موجود في اليمين بالعتق والطلاق أكثر منه في غيرهما من أيمان نذر اللجاج والغضب‏.‏

فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس، أو ليقطعن رحمه، أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها، فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل اللّه عرضة ليمينه، ثم إن وفي بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون علي تحريم الدخول فيه، وإن طلق امرأته ففي الطلاق ـ أيضًا ـ من ضرر الدين والدنيا مالا خفاء فيه‏.‏ أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين، / إما كراهة تنزيه، أو كراهة تحريم، فكيف إذا كانا في غاية الاتصال، وبينهما من الأولاد والعشرة ما يكون في طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم، وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع، بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه علي الطلاق‏؟‏‏!‏ وقد قرن اللّه فراق الوطن بقتل النفس؛ ولهذا قال الإمام أحمد في إحدي الروايتين عنه متابعة لعطاء‏:‏ إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة، وجاز لها التحلل، لما عليها في ذلك من الضرر الزائد علي ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه، وهذا ظاهر فيما إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك، أو أعتق عبيدي، فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق، كما لو قال‏:‏ واللّّه لأطلقنك، أو لأعتقن عبيدي، وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون‏.‏ وسنتكلم عليه ـ إن شاء اللّه تعالي‏.‏

وأيضاً، فإن اللّه قال‏:‏ ‏{‏ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1‏]‏ وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل اللّه إلا واللّه غفور لفاعله رحيم به، وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏لم‏}‏ لأي شيء‏.‏ استفهام في معني النفي والإنكار، والتقدير لا سبب لتحريمك ‏{‏ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ‏}‏، ‏{‏ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ‏}‏ فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق علي أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال، ولا يبقي موجب المغفرة والرحمة علي هذا الفاعل‏.‏

/وأيضًا، قوله سبحانه وتعالي‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ‏}‏ إلي قوله‏:‏‏{‏ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏:‏ 89‏]‏، والحجة منها كالحجة من الأولي وأقوي؛ فإنه قال‏:‏ ‏{‏ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ‏}‏ وهذا عام لتحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها، ثم بين وجه المخرج من ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ ‏}‏ أي‏:‏ فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان، وهذا عام؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ‏}‏ وهذا عام كعموم قوله‏:‏ ‏{‏ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ‏}‏‏.‏ ومما يوضح عمومه أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من حلف فقال‏:‏ إن شاء اللّه، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك‏)‏،فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف باللّه‏.‏

وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما تنجيز الطلاق موافقة لابن عباس؛ لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف، وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه‏:‏ إما بصيغة القسم، وإما بصيغة الجزاء، وما كان في معني ذلك، كما سنذكره إن شاء اللّه تعالي‏.‏ وهذه الدلالة تنبيه علي أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة نذر اللجاج والغضب، فإنهم احتجوا علي التكفير فيه بهذه الآية، وجعلوا قوله‏:‏ ‏{‏ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏ ‏{‏ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ عاما في اليمين باللّه واليمين بالنذر، ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء‏.‏

/فإن قيل‏:‏المراد في الآية اليمين باللّه فقط،فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين، ويجوز أن يكـون التــعريف بالألف واللام والإضافة فـي قـوله‏:‏ ‏{‏ عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ و ‏{‏ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏ منصرفا إلي اليمين المعهودة عندهم وهي اليمين بالله، وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم‏.‏ والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم، ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعـة كاليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه؛ لأنه ليس من اليمين المشروعة؛ لقوله‏:‏ ‏(‏من كان حالفا فليحلف باللّه أو فليصمت‏)‏، وهذا سؤال من يقول‏:‏ كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث‏.‏

فيقال‏:‏ لفظ اليمين شمل هذا كله، بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله، كقوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏النذر حلف‏)‏، وقول الصحابة لمن حلف بالهدي والعتق‏:‏ كفر يمينك‏.‏ وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كما سنذكره‏.‏ ولإدخال العلماء لذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من حلف فقال إن شاء اللّه، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك‏)‏، ويدل علي عمومه في الآية أنه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 1، 2‏]‏ فاقتضي هذا أن نفس تحريم الحلال يمين، كما استدل به ابن عباس وغيره‏.‏ وسبب نزول الآية‏:‏ إما تحريمه العسل، وإما تحريمه مارية / القبطية‏.‏ وعلي التقديرين فتحريم الحلال يمين علي ظاهر الآية، وليس يمينا بالله؛ ولهذا أفتي جمهور الصحابة ـ كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم ـ أن تحريم الحلال يمين مكفرة‏:‏ إما كفارة كبري كالظهار، وإما كفارة صغري كاليمين باللّه‏.‏ ومازال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا‏.‏

وأيضًا ، فإن قوله‏:‏ ‏{‏ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ‏}‏، إما أن يراد به لم تحرم بلفظ الحرام، وإما لم تحرمه باليمين بالله ـ تعالي ـ ونحوها، وإما لم تحرمه مطلقا‏.‏ فإن أريد الأول والثالث فقد ثبت أن تحريمه بغير الحلف بالله يمين، فيعم‏.‏ وإن أريد به تحريمه بالحلف باللّه فقد سمي الله الحلف باللّه تحريما للحلال، ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية، لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا، فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل، فيدخل في عموم قوله‏:‏ ‏{‏ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ‏}‏، وحينئذ فقوله‏:‏ ‏{‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏، لابد أن يعم كل يمين حرمت الحلال؛ لأن هذا حكم ذلك الفعل، فلابد أن يطابق صوره؛ لأن تحريم الحلال هو سبب قوله‏:‏‏{‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ‏}‏، وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض مع قيام السبب المقتضي للتعميم، وهذا التقدير في قوله تعالي‏:‏ ‏{‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ‏}‏ إلي قوله‏:‏ ‏{‏ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏:‏ 89‏]‏‏.‏

/وأيضاً، فإن الصحابة فهمت العموم، وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية علي اليمين بالله وغيرها‏.‏

وأيضًا، فنقول‏:‏ علي الرأس، سـلمنا أن اليمين المذكـورة في الآيــة المـراد بها اليمين بالله ـ تعالي ـ وأن ما سوي اليمين باللّه ـ تعالي ـ لا يلزم بها حكم، فمعلوم أن الحلف بصفاته كالحلف به، كما لو قال‏:‏ وعزة الله تعالي، أو‏:‏ لعمر اللّه، أو‏:‏ والقرآن العظيم، فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا باللّه في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أعوذ بوجهك‏)‏، ‏(‏وأعوذ بكلمات اللّه التامات‏)‏، ‏(‏وأعوذ برضاك من سخطك‏)‏، ونحو ذلك، وهذا أمر متقرر عند العلماء‏.‏

وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات اللّه؛ فإنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلي الحج، فقد حلف بإيجاب الحج عليه، وإيجاب الحج عليه حكم من أحكام اللّه ـ تعالي ـ وهو من صفاته‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ فعلي تحرير رقبة‏.‏ وإذا قال‏:‏ فامرأتي طالق، وعبدي حر، فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه، والتحريم من صفات اللّه، كما أن الإيجاب من صفات اللّه، وقد جعل اللّه ذلك من آياته في قوله‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، فجعل صدوره في النكاح والطلاق والخلع من آياته، لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين للّه كما يعقد النذر للّه، فإن قوله‏:‏ علي الحج والصوم‏.‏ عقد / للّه، ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد للّه بل قصد الحلف به، فإذا حنث ولم يوف به فقد ترك ما عقد للّه، كما أنه إذا فعل المحلوف فقد ترك ما عقده للّه‏.‏

يوضح ذلك أنه إذا حلف باللّه أو بغير اللّه مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه به؛ لأنه يعظمه في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله، فإذا حل ما ربطه به فقد انتقصت عظمته من قلبه، وقطع السبب الذي بينه وبينه‏.‏ وكما قال بعضهم‏:‏ اليمين العقد علي نفسه لحق من له حق؛ ولهذا إذا كانت اليمين غموساً كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال تعالي‏:‏ ‏{‏ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عد الكبائر؛ وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقداً به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه، أوتبرأ من الله، بخلاف ما إذا حلف علي المستقبل فإنه عقـد بالله فعلاً قاصداً لعقده علي وجه التعظيم لله، لكن الله أباح له حل هذا العقد الذي عقده، كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة، أو يزيل عنه وجوبها‏.‏

ولهذا قال أكثر أهل العلم‏:‏ إذا قال‏:‏ هو يهودي، أو نصراني إن لم يفعل ذلك، فهي يمين، بمنزلة قوله‏:‏ والله لأفعلن؛ لأنه ربط عدم / الفعل بكفره الذي هو براءته من الله، فيكون قد ربط الفعل بأيمانه بالله، وهذا هو حقيقة الحلف بالله، فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدني حالاً من ربطه بالله‏.‏

يوضح ذلك أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بأيمانه بالله، وهو ما في قلبه من جلال الله وإكرامه، الذي هو جد الله، ومثله الأعلي في السموات والأرض، كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح لله وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته؛ ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله، كما في قوله‏:‏ ‏{‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 25‏]‏، مع قوله‏:‏ ‏{‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 41‏]‏، فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به، فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلي الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علماً وفضلاً وإجلالاً وإكراماً، وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلي ما كسبه قلبه من ذلك، كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏، وكما في موضع آخر‏:‏ ‏{‏ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏‏.‏

فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالأيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث بغير إيمانه تزول حقيقته، كما قال‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏، وكما أنه إذا حلف علي ذلك يميناً / فاجرة كانت من الكبائر، وإذا اشتري بها مالا معصوماً فلا خلاق له في الآخرة،ولا يكلمه الله يوم القيامة، ولا يزكيه،وله عذاب أليم، لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعلن ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به لغرض الحالف باليمين الغموس فشرع له الكفارة، وحل هذا العقد، وأسقطها عن لغو اليمين؛ لأنه لم يعقد قلبه شيئاً من الجناية علي إيمانه فلا حاجة إلي الكفارة‏.‏

وإذا ظهر أن موجب لفظ اليمين انعقاد الفعل بهذا اليمين الذي هو إيمانه بالله،فإذا عدم الفعل كان مقتضي لفظه عدم إيمانه،هذا لولا ما شرع الله من الكفارة،كما أن مقتضي قوله‏:‏ إن فعلت كذا أوجب علي كذا؛أنه عند الفعل يجب ذلك الفعل لولا ما شرع الله من الكفارة‏.‏

يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال‏)‏ أخرجاه في الصحيحين، فجعل اليمين الغموس في قوله‏:‏ هو يهودي، أو نصراني إن فعل كذا، كالغموس في قوله‏:‏ والله ما فعلت كذا، إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم، والكفر بأمر موجود، بخلاف اليمين علي المستقبل‏.‏ وطرد هذا المعني‏:‏ أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة، كما يقع الكفر بذلك في أحد قولي العلماء، وبهذا يحصل الجواب عن قولهم‏:‏ المراد به اليمين المشروعة‏.‏

/وأيضاً، قوله ـ سبحانه وتعالي ـ‏:‏ ‏{‏ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏، فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين علي أن معناها‏:‏ أنكم لا تجعلوا الله مانعاً لكم إذا حلفتم به من البر والتقوي والإصلاح بين الناس، بأن يحلف الرجل ألا يفعل معروفاً مستحباً أو واجباً، أو ليفعلن مكروها أو حراماً ونحوه، فإذا قيل له‏:‏ افعل ذلك أو لا تفعل هذا، قال‏:‏ قد حلفت بالله، فيجعل الله عرضة ليمينه‏.‏ فإذًا كان قد نهي عباده أن يجعلوا نفسه مانعاً لهم في الحلف من البر والتقوي‏.‏

والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب ألا يكون مانعاً من باب التنبيه بالأعلي علي الأدني، فإنه إذا نهي أن يكون هو ـ سبحانه ـ عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولي أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا، وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئاً من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوي والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به ، فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق ألا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين‏:‏ إن وفي بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس ، وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور ، فقد يكون خروج أهله منه أبعد عن البر والتقوي من الأمر المحلوف عليه، فإن أقام علي يمينه ترك البر والتقوي ، وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوي، فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقي، فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة‏.‏

/وهذا المعني هو الذي دلت عليه السنة، ففي الصحيحين من حديث همام، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه‏)‏‏.‏ ورواه البخاري ـ أيضاً ـ من حديث عكرمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثماً‏)‏، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم من التكفير‏.‏ واللجاج‏:‏ التمادي في الخصومة، ومنه قيل‏:‏ رجل لجوج إذا تمادي في الخصومة؛ ولهذا تسمي العلماء هذا نذر اللجاج، والغضب، فإنه يلج حتي يعقده، ثم يلج في الامتناع من الحنث‏.‏ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين أعظم إثماً من الكفارة، وهذا عام في جميع الأيمان‏.‏

وأيضاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة‏:‏ ‏(‏إذا حلفت علي يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏ وفي رواية في الصحيحين‏:‏ ‏(‏فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير‏)‏، وروي مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف علي يمين فرأي غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير‏)‏ وفي رواية‏:‏ ‏(‏فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه‏)‏، وهذا نكرة في / سياق الشرط، فيعم كل حلف علي يمين كائناً ما كان الحلف، فإذا رأي غير اليمين المحلوف عليها خيراً منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركاً لخير فيري فعله خيراً من تركه، أو يكون فعلاً لشر فيري تركه خيراً من فعله، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، وقوله هنا‏:‏ ‏[‏علي يمين‏]‏، هو - والله أعلم - من باب تسمية المفعول باسم المصدر، سمي الأمر المحلوف عليه يميناً، كما يسمي المخلوق خلقاً، والمضروب ضرباً، والمبيع بيعاً، ونحو ذلك‏.‏

وكذلك أخرجاه في الصحيحين، عن أبي موسي الأشعري في قصته وقصة أصحابه، لما جاؤوا إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه فقال‏:‏ ‏(‏والله ما أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏إني والله إن شاء الله لا أحلف علي يمين فأري غيرها خيراً منها إلا آتيت الذي هو خير، وتحللتها‏)‏، وفي روايةفي الصحيحين ‏(‏إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير‏)‏ وروي مسلم في صحيحه، عن عدي بن حاتم، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا حلف أحدكم علي اليمين فرأي غيرها خيراً منها فيكفرها وليأت الذي هو خير‏)‏، وفي رواية لمسلم ـ أيضاً ـ‏:‏ ‏(‏من حلف علي يمين فرأي غيرها خيًرا منها فليكفرها، وليأت الذي هو خير‏)‏، وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله ابن عمر، وعوف بن مالك الجشمي‏.‏

/فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف علي يمين فرأي غيرها خيراً منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه‏.‏ وروي النسائي عن أبي موسي، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما علي الأرض يمين أحلف عليها فأري غيرها خيراً منها إلا أتيته‏)‏، وهذا صريح بأنه قصد تعميم كل يمين في الأرض‏.‏

وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام، فروي أبو داود في سننه، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب‏:‏ أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال‏:‏ إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة‏.‏ فقال له عمر‏:‏ إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك‏)‏، فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه، وألا يفعل ذلك المنذور، واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، وفيما لا يملك‏)‏، ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر علي معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر، وإنما عليه الكفارة، كما أفتاه عمر، ولولا أن هذا النذر / كان عنده يميناً لم يقل له‏:‏ كفر عن يمينك، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يمين ولا نذر‏)‏ ؛ لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع، والنذر ما قصد به التقرب، وكلاهما لا يوفي به في المعصية والقطيعة‏.‏

وفي هذا الحديث دلالة أخري، وهو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يمين ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة رحم‏)‏ ، يعم جميع ما يسمي يميناً أو نذراً، سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي، أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق‏.‏ ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط، أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم، وهذا الثاني هو الظاهر؛ لاستدلال عمر بن الخطاب به؛ فإنه لولا أن الحديث يدل علي هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة؛ ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله‏.‏

وأيضاً، فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله?ـ تعالي ـ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما روي ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال‏:‏ إن شاء الله، فلا حنث عليه‏)‏‏.‏ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال‏:‏ حديث حسن،/ وأبو داود ولفظه‏:‏ حدثنا أحمد بن حنبل، ثنا سفيان؛ عن أيوب،عن نافع، عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال‏:‏ إن شاء الله، فقد استثني‏)‏ ورواه ـ أيضا ـ من طريق عبد الرزاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف فاستثني فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث‏)‏‏.‏ وعن أبي هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث‏)‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، ولفظه‏:‏ ‏(‏فله ثنياه‏)‏ والنسائي، وقال‏:‏ ‏(‏فقد استثني‏)‏‏.‏

ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث، وقالوا‏:‏ ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة، بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه، وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء‏.‏ وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق، والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر، وسنذكر إن شاء الله قاعدة الاستثناء فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال إن شاء الله، فلا حنث عليه‏)‏ ، فكذلك يدخل في قوله‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه‏)‏ ، فإن كلا اللفظين سواء، وهذا واضح لمن تأمله، فإن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه‏)‏، العموم فيه مثله في قوله‏:‏/ ‏(‏من حلف على يمين فرأي غيرهما خيرًا منها فليأت الذي خير، وليكفر عن يمينه‏)‏ وإذا كان لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير، وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء، كما نص عليه أحمد في غير موضع‏.‏

ومن قال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بقوله‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه‏)‏ جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله، وبالنذر، وبالطلاق، وبالعتاق وبقوله‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأي غيرها خيرًا منها‏)‏، إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر‏.‏ فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي صلى الله عليه وسلم مثل حضور موجب اللفظ الآخر، إذ كلاهما لفظ واحد، والحكم فيهما من جنس واحد وهو رفع اليمين، إما بالاستثناء، وإما بالتكفير‏.‏

وبعد هذا فاعلم أن الأمة انقسمت في دخول الطلاق والعتاق في حديث الاستثناء على ثلاثة أقسام ‏:‏

فقوم قالوا‏:‏ يدخل في ذلك الطلاق والعتاق أنفسهما، حتى لو قال‏:‏ أنت طالق إن شاء الله، وأنت حر إن شاء الله، دخل ذلك في عموم الحديث‏.‏ وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما‏.‏

/وقوم قالوا‏:‏ يدخل في ذلك الطلاق والعتاق، لا إيقاعهما ولا الحلف بهما، بصيغة الجزاء ولا بصيغة القسم وهذا أشهر القولين في مذهب مالك وإحدي الروايتين عن أحمد‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أن إيقاع الطلاق والعتاق لا يدخل في ذلك، بل يدخل فيه الحلف بالطلاق والعتاق، وهذه الرواية الثانية عن أحمد‏.‏ ومن أصحابه من قال‏:‏ إن كان الحلف بصيغة القسم دخل في الحديث ونفعته المشيئة رواية واحدة، وإن كان بصيغة الجزاء ففيه روايتان‏.‏

وهذا القول الثالث هو الصواب المأثورمعناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمهور التابعين؛ كسعيد بن المسيب، والحسن، لم يجعلوا في الطلاق استثناء ولم يجعلوه من الأيمان، ثم قد ذكرنا عن الصحابة وجمهور التابعين أنهم جعلوا الحلف بالصدقة والهدي والعتاق ونحو ذلك يمينا مكفرة، وهذا معني قول أحمد في غير موضع‏:‏ الاستثناء في الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان، قال أيضا‏:‏ الاستثناء في الطلاق لا أقول به؛ وذلك أن الطلاق والعتاق حرفان واقعان‏.‏ وقال أيضا‏:‏ إنما يكون الاستثناء فيما يكون فيه كفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران‏.‏

وهذا الذي قاله ظاهر، وذلك أن إيقاع الطلاق والعتاق ليسا يمينا أصلا وإنما هو بمنزلة العفو عن القصاص، والإبراء من الدين؛ولهذا لو قال‏:‏ والله لا أحلف على يمين، ثم إنه أعتق عبدًا له، أو طلق امرأته، أو أبرأ / غريمه من دم أو مال أو عرض، فإنه لا يحنث،ما علمت أحدًا خالف في ذلك‏.‏ فمن أدخل إيقاع الطلاق والعتاق في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث‏)‏، فقد حمل العام ما لا يحتمله، كما أن من أخرج من هذا العام قوله‏:‏ الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعله إن شاء الله، أو إن فعلته فامرأتي طالق إن شاء الله، فقد أخرج من القول العام ما هو داخل فيه، فإن هذا يمين بالطلاق والعتاق‏.‏

وهنا ينبغي تقليد أحمد بقوله‏:‏ الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان؛ فإن الحلف بهما كالحلف بالصدقة والحج ونحوهما، وذلك معلوم بالاضطرار عقلا وعرفا وشرعا؛ ولهذا لو قال‏:‏ والله لا أحلف على يمين أبدًا‏.‏ ثم قال‏:‏ إن فعلت كذا فامرأتي طالق، حنث‏.‏ وقد تقدم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سموه يمينا، وكذلك الفقهاء كلهم سموه يمينا، وكذلك عامة المسلمين سموه يمينا‏.‏

ومعني اليمين موجود فيه، فإنه إذا قال‏:‏ أحلف بالله لأفعلن إن شاء الله، فإن المشيئة تعود عند الإطلاق إلي الفعل المحلوف عليه، والمعني إني حالف على هذا الفعل إن شاء الله فعله، فإذا لم يفعل لم يكن قد شاء‏.‏ فلا يكون ملتزما له‏.‏ فلو نوي عوده إلي الحلف بأن يقصد ـ أي الحالف ـ إن شاء الله أن أكون حالفا كان معني هذا مغايرًا الاستثناء في الإنشاءات كالطلاق،/ وعلى مذهب الجمهور لا ينفعه ذلك، وكذلك قوله‏:‏ الطلاق يلزمني لأفعلن كذا إن شاء الله، تعود المشيئة عند الإطلاق إلي الفعل، فالمعني‏:‏ لأفعلنه إن شاء الله فعله، فمتي لم يفعله لم يكن الله قد شاءه فلا يكون ملتزما للطلاق، بخلاف ما لو عني بالطلاق يلزمني إن شاء الله لزومه إياه، فإن هذا بمنزلة قوله‏:‏ أنت طالق إن شاء الله‏.‏

وقول أحمد‏:‏ إنما يكون الاستثناء فيما فيه حكم الكفارة، والطلاق والعتاق لا يكفران، كلام حسن بليغ، لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج حكم الاستثناء وحكم الكفارة مخرجا واحدا بصيغة الجزاء وبصيغة واحدة،فلا يفرق بين ما جمعه النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الاستثناء إنما يقع لما علق به الفعل، فإن الأحكام التي هي الطلاق والعتاق ونحوهما لا تعلق على مشيئة الله ـ تعالي ـ بعد وجود أسبابها‏:‏ فإنها واجبة بوجوب أسبابها؛ فإذا انعقدت أسبابها فقد شاءها الله، وإنما تعلق على المشيئة الحوادث التي قد يشاؤها الله وقد لا يشاؤها من أفعال العباد ونحوها، والكفارة إنما شرعت لما يحصل من الحنث في اليمين التي قد يحصل فيها الموافقة بالبر تارة، والمخالفة بالحنث أخري‏.‏ ووجوب الكفارة بالحنث في اليمين التي تحتمل الموافقة والمخالفة كارتفاع اليمين بالمشيئة التي تحتمل التعليق وعدم التعليق، فكل من حلف على شيء ليفعلنه فلم يفعله،فإنه إن علقه بالمشيئة فلا حنث عليه،وإن لم يعلقه بالمشيئة لزمته الكفارة، فالاستثناء والتكفير يتعاقبان اليمين إذا لم يحصل فيها الموافقة / فهذا أصل صحيح يدفع ما وقع في هذا الباب من الزيادة أو النقص، فهذا على ما أوجبه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم يقال بعد ذلك قـول أحمد وغيره‏:‏ الطـلاق والعتاق لا يكفران‏.‏ كقوله وقول غيره‏:‏ لا استثناء فيهما، وهذا في إيقاع الطلاق والعتاق‏.‏ وأما الحلف بهما فليس تكفيرًا لهما، وإنما هو تكفير للحلف بهما، كما أنه إذا حلف بالصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي ونحو ذلك في نذر اللجاج والغضب، فإنه لم يكفر الصلاة والصيام والصدقة والحج والهدي، وإنما يكفر الحلف بهم، وإلا فالصلاة لا كفارة فيها، وكذلك هذه العبادات لا كفارة فيها لمن يقدر عليها، وكما أنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أعتق، فإن عليه الكفارة بلا خلاف في مذهب أحمد وموافقيه من القائلين بنذر اللجاج والغضب، وليس ذلك تكفيرًا للعتق، وإنما هو تكفير للحلف به‏.‏ فلازم قول أحمد هذا أنه إذاجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كان الحلف بهما تصح فيه الكفارة وهذا موجب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمناه‏.‏

وأما من لم يجعل الحلف بهما يصح فيه الاستثناء كأحد القولين في مذهب أحمد ومذهب مالك فهو قول مرجوح، ونحن في هذا المقام إنما نتكلم بتقدير تسليمه، وسنتكلم إن شاء الله في مسألة الاستثناء على حدة‏.‏

/وإذا قال أحمد أو غيره من العلماء‏:‏ إن الحلف بالطلاق والعتاق لا كفارة فيه؛ لأنه لا استثناء فيه، لزم من هذا القول أن الاستثناء في الحلف بهما‏.‏

وأما من فرق من أصحاب أحمد فقال‏:‏ يصح في الحلف بهما الاستثناء ولاتصح الكفارة، فهذا الفرق لم أعلمه منصوصا عليه عن أحمد، ولكنهم معذورون فيه من قوله حيث لم يجدوه نص في تكفير الحلف بهما على روايتين، كما نص في الاستثناء في الحلف بهما على روايتين، لكن هذا القول لازم على إحدي الروايتين عنه التي ينصرونها‏.‏ ومن سوي الأنبياء يجوز أن يلزم قوله لوازم لا يتفطن للزومها، ولو تفطن لكان إما أن يلتزمها أو لا يلتزمها، بل يرجع عن الملزوم، أو لا يرجع عنه ويعتقد أنها غير لوازم‏.‏

والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما ألا يكون نص على ذلك اللازم لا بنفي ولا إثبات، أو نص على نفيه‏.‏ وإذا نص على نفيه فإما أن يكون نص على نفي لزومه أو لم ينص،فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه في تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء، وعنه في الاستثناء روايتان، فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات هل يسمي ذلك مذهبا، أو لا يسمي‏؟‏ ولأصحابنا فيه خلاف مشهور‏.‏

/فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلونه مذهبا له، والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهبا له‏.‏ والتحقيق أن هذا قياس قوله ولازم قوله،فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا ـ أيضا ـ بمنزلة ما ليس بلازم قوله‏:‏ بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حيث أمكن ألا يلازمه‏.‏

وأيضا، فإن الله شرع الطلاق مبيحا له أو آمرًا به أو ملزما له إذا أوقعه صاحبه، وكذلك العتق، وكذلك النذر‏.‏ وهذه العقود من النذر والطلاق والعتاق تقتضي وجوب أشياء على العبد، أو تحريم أشياء عليه، والوجوب والتحريم إنما يلزم العبد إذا قصده أو قصد سببه؛ فإنه لو جري على لسانه هذا الكلام بغير قصد لم يلزمه شيء بالاتفاق، ولو تكلم بهذه الكلمات مكرها لم يلزمه حكمها عندنا وعند الجمهور، كما دلت عليه السنة وآثار الصحابة؛ لأن مقصوده إنماهو دفع المكروه عنه، لم يقصد حكمها، ولا قصد التكلم بها ابتداء‏.‏ فكذلك الحالف إذا قال‏:‏ إن لم أفعل كذا فعلى الحج، أو الطلاق، ليس بقصد التزام حج ولا طلاق، ولا تكلم بما يوجبه ابتداء، وإنما قصده الحض على ذلك الفعل، أو منع نفسه منه، كما أن قصد المكره دفع المكروه عنه، ثم قال على طريق المبالغة في الحض والمنع‏:‏ إن فعلت كذا فهذا لي لازم، أو هذا على حرام؛ لشدة امتناعه من هذا اللزوم والتحريم علق ذلك به، فقصده منعهما جميعا، لا ثبوت أحدهما ولا ثبوت سببه‏.‏ وإذا لم يكن قاصدًا للحكم ولا لسببه، وإنما قصده عدم الحكم لم يجب أن يلزمه الحكم‏.‏

/وأيضا، فإن اليمين بالطلاق بدعة محدثة في الأمة لم يبلغني أنه كان يحلف بها على عهد قدماء الصحابة، ولكن قد ذكروها في أيمان البيعة التي رتبها الحجاج بن يوسف، وهي تشتمل على اليمين بالله وصدقة المال والطلاق والعتاق‏.‏ ولم أقف ـ إلي الساعة ـ على كلام لأحد من الصحابة في الحلف بالطلاق، وإنما الذي بلغنا عنهم الجواب في الحلف بالعتق، كما تقدم‏.‏

ثم هذه البدعة قد شاعت في الأمة وانتشرت انتشارًا عظيما، ثم لما اعتقد من اعتقد أن الطلاق يقع بها لا محالة، صار في وقوع الطلاق بها من الأغلال على الأمة ما هو شبيه بالأغلال التي كانت على بني إسرائيل، ونشأ عن ذلك خمسة أنواع من الحيل والمفاسد في الأيمان، حتى اتخذوا آيات الله هزوًا، وذلك أنهم يحلفون بالطلاق على ترك أمور لابد لهم من فعلها إما شرعا وإما طبعا، وعلى فعل أمور يصلح فعلها إما شرعا وإما طبعا، وغالبا ما يحلفون بذلك في حال اللجاج والغضب، ثم فراق الأهل فيه من الضرر في الدين والدنيا ما يزيد على كثير من أغلال اليهود، وقد قيل‏:‏ إن الله إنما حرم المطلقة ثلاثاً حتى تنكح زوجا غيره لئلا يسارع الناس إلي الطلاق؛ لما فيه من المفسدة‏.‏

فإذا حلفوا بالطلاق على الأمور اللازمة أو الممنوعة وهم محتاجون إلي فعل تلك الأمور أو تركها مع عدم فراق الأهل قدحت الأفكار لهم أربعة أنواع من الحيل، أخذت عن الكوفيين وغيرهم‏.‏

/الحيلة الأولي ‏:‏ في المحلوف عليه، فيتأول لهم خلاف ما قصدوه، وخلاف ما يدل عليه الكلام في عرف الناس وعاداتهم، وهذا هو الذي وصفه بعض المتكلمين في الفقه ويسمونه باب المعاياة وباب الحيل في الأيمان، وأكثره مما يعلم بالاضطرارمن الدين أنه لا يسوغ في الدين، ولا يجوز حمل كلام الحالف عليه؛ ولهذا كان الأئمة كأحمد وغيره يشددون النكير على من يحتال في هذه الأيمان‏.‏

الحيلة الثانية ‏:‏ إذا تعذر الاحتيال في الكلام المحلوف عليه احتالوا للفعل المحلوف عليه، بأن يأمروه بمخالعة امرأته ليفعل المحلوف عليه في زمن البينونة، وهذه الحيلة أحدث من التي قبلها، وأظنها حدثت في حدود المائة الثالثة؛ فإن عامة الحيل إنما نشأت عن بعض أهل الكوفة، وحيل الخلع لا تمشي على أصلهم؛ لأنهم يقولون‏:‏ إذا فعل المحلوف عليه في العدة وقع به الطلاق؛ لأن المعتدة من فرقة بائنة يلحقها الطلاق عندهم، فيحتاج المحتال بهذه الحيلة أن يتربص حتى تنقضي العدة ثم يفعل المحلوف عليه بعد انقضائها وهذا فيه ضرر عليه من جهة طول المدة، فصار يفتي بها بعض أصحاب الشافعي‏.‏ وربما ركبوا معها أحد قوليه الموافق لأشهرالروايتين عن أحمد من أن الخلع فسخ، وليس بطلاق، فيصير الحالف كلما أراد الحنث خلع زوجته وفعل المحلوف عليه ثم تزوجها؛ فإما أن يفتوه بنقص عدد الطلاق، أو يفتوه بعدمه وهذا الخلع الذي هو خلع الأيمان، شبيه بنكاح المحلل سواء، فإن ذلك / عقد عقدًا لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذا فسخ فسخا لم يقصده وإنما قصد إزالته، وهذه حيلة محدثة باردة قد صنف أبو عبد الله ابن بطة جزءًا في إبطالها، وذكر عن السلف في ذلك من الآثار ما قد ذكرت بعضه في غير هذا الموضع‏.‏

الحيلة الثالثة ‏:‏ إذا تعذر الاحتيال في المحلوف عليه احتالوا في المحلوف به، فيبطلونه بالبحث عن شروطه، فصار قوم من المتأخرين من أصحاب الشافعي يبحثون عن صفة عقد النكاح لعله اشتمل على أمر يكون به فاسدًا؛ ليرتبوا على ذلك أن الطلاق في النكاح الفاسد لا يقع، ومذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد في إحدي روايته‏:‏ أن الولي الفاسق لا يصح نكاحه، والفسوق غالب على كثير من الناس، فينفق سوق هذه المسألة بسبب الاحتيال لرفع يمين الطلاق حتى رأيت من صنف في هذه المسألة مصنفا مقصوده به الاحتيال لرفع الطلاق، ثم تجد هؤلاء الذين يحتالون بهذه الحيلة إنما ينظرون في صفة عقد النكاح، وكون ولاية الفاسق لا تصح عند إيقاع الطلاق الذي قد ذهب كثير من أهل العلم أو أكثرهم إلي أنه يقع في الفاسد في الجملة‏.‏ وأما عند الوطء والاستمتاع الذي أجمع المسلمون على أنه لا يباح في النكاح الفاسد فلا ينظرون في ذلك، ولا ينظرون في ذلك ـ أيضا ـ عند الميراث وغيره من أحكام النكاح الصحيح، بل عند وقوع الطلاق خاصة، وهذا نوع من اتخاذ آيات الله هزوًا، ومن المكر في آيات الله، إنما أوجبه الحلف بالطلاق، والضرورة إلي عدم وقوعه‏.‏

/الحيلة الرابعة‏:‏ الشرعية في إفساد المحلوف به ـ أيضاً ـ لكن لوجود مانع، لا لفوات شرط؛ فإن أبا العباس ابن سُرَيج وطائفة بعده اعتقدوا أنه إذا قال لامرأته‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي وإذا طلقتك فأنت طالق قبل ثلاثاً، فإنه لا يقع عليه بعد ذلك طلاق أبدًا؛ لأنه إذا وقع المنجز لزم وقوع المعلق، وإذا وقع المعلق امتنع وقوع المنجز، فيفضي وقوعه إلي عدم وقوعه فلا يقع، وأما عامة فقهاء الإسلام من جميع الطوائف فأنكروا ذلك، بل رأوه من الزلات التي يعلم بالاضطرار كونها ليست من دين الإسلام؛ حيث قد علم بالضرورة من دين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن الطلاق أمر مشروع في كل نكاح، وأنه ما من نكاح إلا ويمكن فيه الطلاق، وسبب الغلط أنهم اعتقدوا صحة هذا الكلام، فقالوا‏:‏ إذا وقع المنجز وقع المعلق‏.‏ وهذا الكلام ليس بصحيح؛ فإنه مستلزم وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، ووقوع طلقة مسبوقة بثلاث ممتنع في الشريعة‏.‏ فالكلام المشتمل على ذلك باطل‏.‏ وإذا كان باطلا لم يلزم من وقوع المنجز وقوع المعلق؛ لأنه إنما يلزم إذا كان التعليق صحيحًا‏.‏

ثم اختلفوا هل يقع من المعلق تمام الثلاث‏؟‏ أم يبطل التعليق ولا يقع إلا المنجز‏؟‏ على قولين في مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏

وما أدري هل استحدث ابن سريج هذه المسألة للاحتيال على رفع الطلاق، أم قاله طردًا لقياس اعتقد صحته، واحتال بها من بعده‏؟‏ لكني رأيت / مصنفا لبعض المتأخرين بعد المائة الخامسة صنفه في هذه المسألة، ومقصوده بها الاحتيال على عدم وقوع الطلاق‏.‏

ولهذا صاغوها بقوله‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً؛ لأنه لو قال‏:‏ إذا طلقتك فأنت طالق قبله ثلاثاً لم تنفعه هذه الصيغة في الحيلة، وإن كان كلاهما في الدور سواء؛ وذلك لأن الرجل إذا قال لامرأته‏:‏ إذا طلقتك فعبدي حر، أو فأنت طالق، لم يحنث إلا بتطليق ينجزه بعد هذه اليمين، أو يعلقه بعدها على شرط فيوجد‏.‏ فإن كل واحد من التنجيز والتعليق الذي وجد شرطه تطليق، أما إذا كان قد علق طلاقها قبل هذه اليمين بشرط ووجد الشرط بعد هذه اليمين لم يكن مجرد وجود الشرط ووقوع الطلاق به تطليقا؛ لأن التطليق لابد أن يصدر عن المطلق، ووقوع الطلاق بصفة يفعلها غيره ليس فعلا منه‏.‏ فأما إذا قال‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي، فهذا يعم المنجز والمعلق بعد هذا بشرط، والواقع بعد هذا بشرط تقدم تعليقه‏.‏ فصوروا المسألة بصورة قوله‏:‏ إذا وقع عليك طلاقي‏.‏حتى إذا حلف الرجل بالطلاق لا يفعل شيئا قالوا له‏:‏ قل إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، فيقول ذلك، فيقولون له‏:‏ افعل الآن ما حلفت عليه؛ فإنه لا يقع عليك طلاق‏!‏‏!‏

فهذا التسريح المنكر عند عامة أهل الإسلام المعلوم يقينا أنه ليس من الشريعة التي بعث الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما نفقه في الغالب وأحوج كثيرا من الناس إلا الحلف بالطلاق، وإلا فلولا ذلك لم يدخل فيه أحد؛ لأن العاقل لا يكاد يقصد انسداد باب الطلاق عليه إلا نادرًا‏.‏

/الحيلة الخامسة‏:‏ إذا وقع الطلاق ولم يمكن الاحتيال لا في المحلوف عليه قولا ولا فعلا،ولا في المحلوف به إبطالا ولا منعا، احتالوا لإعادة النكاح بنكاح المحلل الذي دلت السنة وإجماع الصحابة مع دلالة القرآن وشواهد الأصول على تحريمه وفساده، ثم قد تولد من نكاح المحلل من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، كما قد نبهنا على بعضه في ‏[‏كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل‏]‏ وأغلب ما يحوج الناس إلي نكاح المحلل هو الحلف بالطلاق، وإلا فالطلاق الثلاث لا يقدم عليه الرجل في الغالب إلا إذا قصده، ومن قصده لم يترتب عليه من الندم والفساد ما يترتب على من اضطر لوقوعه لحاجته إلي الحنث‏.‏

فهذه المفاسد الخمس التي هي الاحتيال على نقض الأيمان وإخراجها من مفهومها ومقصودها، ثم الاحتيال بالخلع وإعادة النكاح، ثم الاحتيال بالبحث عن فساد النكاح، ثم الاحتيال بمنع وقوع الطلاق، ثم الاحتيال بنكاح المحلل‏:‏ في هذه الامورمن المكر والخداع، والاستهزاء بآيات الله، واللعب الذي ينفر العقلاء عن دين الإسلام، ويوجب طعن الكفار فيه، كما رأيته في بعض كتب النصاري وغيرها، وتبين لكل مؤمن صحيح الفطرة أن دين الإسلام بريء منزه عن هذه الخزعبلات التي تشبه حيل اليهود ومخاريق الرهبان‏.‏

/وأكثر ما أوقع الناس فيها وأوجب كثرة إنكار الفقهاء فيها واستخراجهم لها هو حلف الناس بالطلاق، واعتقاد وقوع الطلاق عند الحنث لا محالة، حتى لقد فرع الكوفيون وغيرهم من فروع الأيمان شيئا كثيرًا مبناه على هذا الأصل، وكثير من الفروع الضعيفة التي يفرعها هؤلاء ونحوهم هي كما كان الشيخ أبو محمد المقدسي ـ رحمه الله ـ يقول‏:‏ مثالها مثال رجل بني دارًا حسنة على حجارة مغصوبة، فإذا نوزع في استحقاق تلك الحجارة التي هي الأساس فاستحقها غيره، انهدم بناؤه؛ فإن الفروع الحسنة إن لم تكن على أصول محكمة وإلا لم يكن لها منفعة‏.‏

فإذا كان الحلف بالطلاق واعتقاد لزوم الطلاق عند الحنث قد أوجب هذه المفاسد العظيمة التي قد غيرت بعض أمور الإسلام عند من فعل ذلك وصار في هؤلاء شبه من أهل الكتاب كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن لزوم الطلاق عند الحلف به ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أفتي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ولا أحد منهم فيما أعلمه ولا اتفق عليه التابعون لهم بإحسان والعلماء بعدهم، ولا هو مناسب لأصول الشريعة، ولا حجة لمن قاله أكثر من عادة مستمرة، أسندت إلي قياس معتضد بتقليد لقوم أئمة علماء محمودين عند الأمة، وهم ـ ولله الحمد ـ فوق ما يظن بهم، لكن لم نؤمر عند التنازع إلا بالرد إلي الله وإلي الرسول، وقد خالفهم من ليس دونهم، بل مثلهم أو فوقهم‏.‏ فإنا قد ذكرنا عن أعيان من الصحابة / كعبد الله بن عمر المجمع على إمامته وفقهه ودينه، وأخته حفصة أم المؤمنين وزينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهي من أمثل فقيهات الصحابة ـ الإفتاء بالكفارة في الحلف بالعتق، والطلاق أولي منه‏.‏ وذكرنا عن طاووس ـ وهو من أفاضل علماء التابعين علما وفقها ودينا ـ‏:‏ أنه لم يكن يري اليمين بالطلاق موقعة له‏.‏

فإذا كان لزوم الطلاق عند الحنث في اليمين به مقتضيا لهذه المفاسد، وحاله في الشريعة هذه الحال، كان هذا دليلا على أن ما أفضي إلي هذا الفساد لم يشرعه الله ولا رسوله، كما نبهنا عليه في ضمان الحدائق من يزدرعها ويستثمرها، ويبيع الخضر ونحوها‏.‏

وذلك أن الحالف بالطلاق إذا حلف ليقطعن رحمه، وليعقن أباه، وليقتلن عدوه المسلم المعصوم، وليأتين الفاحشة، وليشربن الخمر، وليفرقن بين المرء وزوجه، ونحو ذلك من كبائر الإثم والفواحش فهو بين ثلاثة أمور‏:‏

إما أن يفعل هذا المحلوف عليه، فهذا لا يقوله مسلم؛ لما فيه من ضرر الدنيا والآخرة، مع أن كثيرًا من الناس بل والمفتين إذا رأوه قد حلف بالطلاق كان ذلك سببا لتخفيف الأمر عليه، وإقامة عذره‏.‏

/وإما أن يحتال ببعض تلك الحيل المذكورة، كما استخرجه قوم من المفتين‏:‏ ففي ذلك من الاستهزاء بآيات الله ومخادعته، والمكر في دينه، والكيد له، وضعف العقل والدين، والاعتداء لحدوده، والانتهاك لمحارمه، والإلحاد في آياته ما لا خفاء به، وإن كان في إخواننا الفقهاء من قد يستجيز بعض ذلك، فقد دخل من الغلط في ذلك ـ وإن كان مغفورًا لصاحبه المجتهد المتقي لله ـ ما فساده ظاهر لمن تأمل حقيقة الدين‏.‏

وإما ألا يحتال ولا يفعل المحلوف عليه، بل يطلق امرأته، كما يفعله من يخشي الله إذا اعتقد وقوع الطلاق، ففي ذلك من الفساد في الدين والدنيا ما لا يأذن الله به ولا رسوله‏.‏

أمـا فساد الدين فإن الطلاق منهي عنه مع استقامة حال الزوج باتفاق العلماء، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة‏)‏، وقد اختلف العلماء هل هو محرم، أو مكروه‏؟‏ وفيه روايتان عن أحمد‏.‏ وقد استحسنوا جواب أحمد ـ رضي الله عنه ـ لما سئل عمن حلف بالطلاق وحرم ليطأن امرأته وهي حائض، فقال‏:‏ ويطلقها ولا يطأها، قد أباح الله الطلاق وحرم وطء الحائض‏.‏ وهذا الاستحسان يتوجه على أصلين‏:‏ إما على قوله‏:‏ إن الطلاق ليس بحرام، وإما أن يكون تحريمه دون تحريم الوطء‏.‏ وإلا فإذا كان كلاهما حراما لم يخرج من حرام إلا إلي حرام‏.‏

/وأما ضرر الدنيا فأبين من أن يوصف؛ فإن لزوم الطلاق والمحلوف به في كثير من الأوقات يوجب من الضرر ما لم تأت به الشريعة في مثل هذا قط، فإن المرأة الصالحة تكون في صحبة زوجها الرجل الصالح سنين كثيرة، وهي متاعه الذي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الدنيا متاع وخير متاعها المرأة المؤمنة، إن نظرت إليها أعجبتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك‏)‏، وهي التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لما سأله المهاجرون‏:‏ أي المال نتخذ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لسانا ذاكرًا، وقلبا شاكرًا، أو امرأة صالحة تعين أحدكم على إيمانه‏)‏،رواه الترمذي من حديث سالم بن أبي الجعد عن ثوبان، ويكون منها من المودة والرحمة ما امتن الله ـ تعالي ـ بها في كتابه، فيكون ألم الفراق أشد عليها من الموت أحيانا، وأشد من ذهاب المال، وأشد من فراق الأوطان، خصوصا إن كان بأحدهما علاقة من صاحبه، أو كان بينهما أطفال يضيعون بالفراق ويفسد حالهم ـ ثم يفضي ذلك إلي القطيعة بين أقاربها ووقوع الشر لما زالت نعمة المصاهرة التي امتن الله ـ تعالي ـ بها في قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 54‏]‏، ومعلوم أن هذا من الحرج الداخل في عموم قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عليكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، ومن العسر المنفي بقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وأيضاً، فإذا كان المحلوف عليه بالطلاق فعل بر وإحسان، من صدقة أو عتاقة، وتعليم علم،وصلة رحم وجهاد في سبيل الله وإصلاح بين الناس /ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها،فإنه لما عليه من الضرر العظيم في الطلاق أعظم ألا يفعل ذلك، بل ولا يؤمر به شرعا؛ لأنه قد يكون الفساد الناشئ من الطلاق أعظم من الصلاح الحاصل من هذه الأعمال‏.‏ وهذه المفسدة هي التي أزالها الله ورسوله بقوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يأتي الكفارة‏)‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهو الذي أوقع نفسه في أحد هـذه الضرائـر الثـلاث، فلا ينبغي له أن يحلف‏.‏

قيل‏:‏ ليس في شريعتنا ذنب إذا فعله الإنسان لم يكن له مخرج منه بالتوبة إلا بضرر عظيم؛ فإن الله لم يحمل علينا إصرًا كما حمله على الذين من قبلنا، فهب هذا قد أتي كبيرة من الكبائر في حلفه بالطلاق، ثم تاب من تلك الكبيرة، فكيف يناسب أصول شريعتنا أن يبقي أثر ذلك الذنب عليه لا يجد منه مخرجا‏؟‏‏!‏‏!‏ وهذا بخلاف الذي ينشئ الطلاق لا بالحلف عليه، فإنه لا يفعل ذلك إلا وهو مريد الطلاق‏:‏ إما لكراهة المرأة، أو غضب عليها، ونحو ذلك‏.‏ وقد جعل الله الطلاق ثلاثة، فإذا كان إنما يتكلم بالطلاق باختياره، وله ذلك ثلاث مرات، كان وقوع الضرر بمثل هذا نادرًا، بخلاف الأول؛ فإن مقصوده لم يكن الطلاق، إنما كان أن / يفعل المحلوف عليه أولا يفعله، ثم قد يأمره الشرع أو تضطره الحاجة إلي فعله أو تركه، فيلزمه الطلاق بغير اختيار لا له ولا لسببه‏.‏

وأيضاً، فإن الذي بعث الله ـ تعالي ـ به محمدًا صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان تخفيفها بالكفارة؛ لا تثقيلها بالإيجاب أو التحريم، فإنهم كانوا في الجاهلية يرون الظهار طلاقا، واستمروا على ذلك في أول الإسلام حتى ظاهر أوس بن الصامت من امرأته‏.‏

وأيضاً، فالاعتبار بنذر اللجاج والغضب، فإنه ليس بينهما من الفرق إلا ما ذكرناه، وسنبين إن شاء الله عدم تأثيره‏.‏ والقياس بإلغاء الفارق أصح ما يكون من الاعتبار باتفاق العلماء المعتبرين، وذلك أن الرجل إذا قال‏:‏ إن أكلت أو شربت فعلى أن أعتق عبدي، أو فعلى أن أطلق امرأتي، أو فعلى الحج، أو فأنا محرم بالحج، أو فمالي صدقة، أو فعلى صدقة، فإنه تجزئه كفارة يمين عند الجمهور، كما قدمناه، بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فكذلك إذا قال‏:‏ إن أكلت هذا أو شربت هذا فعلى الطلاق‏.‏ أو فالطلاق لي لازم‏.‏ أو فامرأتي طالق‏.‏ أو فعبيدي أحرار؛ فإن قوله على الطلاق لا أفعل كذا، أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، فهو بمنزلة قوله‏:‏ على الحج لا أفعل كذا، أو الحج لي لازم لا أفعل كذا‏.‏ وكلاهما يمينان محدثان ليستا مأثورتين عن العرب ، ولا معروفتين عن الصحابة ، وإنما / المتأخرون صاغوا من هذه المعاني أيمانا، وربطوا إحدي الجملتين بالأخري، كالأيمان التي كان المسلمون من الصحابة يحلفون بها وكانت العرب تحلف بها، لا فرق بين هذا وهذا إلا أن قوله‏:‏ إن فعلت فمالي صدقة، يقتضي وجوب الصدقة عند الفعل، وقوله‏:‏ فامرأتي طالق، يقتضي وجود الطلاق، فالكلام يقتضي وقوع الطلاق بنفس الشرط وإن لم يحدث بعد هذا طلاقا، ولا يقتضي وقوع الصدقة حتى يحدث صدقة‏.‏

وجواب هذا الفرق الذي اعتمده الفقهاء المفرقون من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ منع الوصف الفارق في بعض الأصول المقيس عليها وفي بعض صور الفروع المقيس عليها‏.‏

والثاني‏:‏ بيان عدم التأثير‏.‏

أما الأول‏:‏ فإنه إذا قال‏:‏ إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو فأنا محرم أو فبعيري هدي، فالمعلق بالصفة وجود الصدقة والإحرام والهدي لا وجوبهما كما أن المعلق في قوله‏:‏ فعبدي حر، وامرأتي طالق‏.‏ وجود الطلاق والعتق لا وجوبهما؛ ولهذا اختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم فيما إذا قال‏:‏ هذا هدي، وهذا صدقة لله‏:‏ هل يخرج عن ملكه، أو لا يخرج‏؟‏ فمن قال‏:‏ يخرج عن ملكه فهو كخروج زوجته وعبده عن ملكه، وأكثر ما في الباب أن الصدقة / والهدي يتملكهما الناس بخلاف الزوجة والعبد، وهذا لا تأثير له، وكذلك لو قال‏:‏ على الطلاق لأفعلن كذا، أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، فهو كقوله‏:‏ على الحج لأفعلن كذا فهو جعل المحلوف به هاهنا وجوب الطلاق؛ لا وجوده، كأنه قال‏:‏ إن فعلت كذا فعلى أن أطلق، فبعض صور الحلف بالطلاق يكون المحلوف به صيغة وجوب‏.‏ كما أن بعض صور الحلف بالنذر يكون المحلوف به صيغة وجود‏.‏

وأما الجواب الثاني‏:‏ فنقول‏:‏ هب أن المعلق بالفعل هنا وجود الطلاق والعتاق، والمعلق هناك وجوب الصدقة والحج والصيام والإهداء، أليس موجب الشرط ثبوت هذا الوجوب‏؟‏ بل يجزئه كفارة يمين، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجوب، بل يجزيه كفارة يمين عند وجوب الشرط، فإن كان عند الشرط لا يثبت ذلك الوجوب، كذلك عند الشرط لا يثبت هذا الوجود، بل كما لو قال‏:‏ هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا، فإن المعلق هنا وجود الكفر عند الشرط ثم إذا وجد الشرط لم يوجد الكفر بالاتفاق، بل يلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء‏.‏

ولو قال ابتداء‏:‏ هو يهودي أو نصراني أو كافر يلزمه الكفر، بمنزلة قوله ابتداء‏:‏ عبدي حر، وامرأتي طالق، وهذه البدنة هدي، وعلى صوم / هدي، وعلى صوم يوم الخميس، ولو علق الكفر بشرط يقصد وجوده كقوله‏:‏ إذا هل الهلال فقد برئت من دين الإسلام لكان الواجب أنه يحكم بكفره، لكن لا يناجز الكفر؛ لأن توقيته دليل على فساد عقيدته‏.‏

قيل‏:‏ فالحلف بالنذر إنما عليه فيه الكفارة فقط، قيل‏:‏ مثله في الحلف بالعتق، وكذلك الحلف بالطلاق، كما لو قال‏:‏ فعلى أن أطلق امرأتي‏.‏ ومن قال إنه إذا قال‏:‏ فعلى أن أطلق امرأتي، لا يلزمه شيء، فقياس قوله في الطلاق لا يلزمه شيء؛ ولهذا توقف طاووس في كونه يمينا‏.‏ وإن قيل‏:‏ إنه يخير بين الوفاء به والتكفير فكذلك هنا يخير بين الطلاق والعتق وبين التكفير؛ فإن وطئ امرأته كان اختيارًا للتكفير، كما أنه في الظهار يكون مخيرًا بين التكفير وبين تطليقها؛ فإن وطئها لزمته الكفارة، لكن في الظهار لا يجوز له الوطء حتى يكفر؛ لأن الظهار منكر من القول وزور حرمها عليه‏.‏ وأما هنا فقوله‏:‏ إن فعلت فهي طالق، بمنزلة قوله‏:‏ فعلى أن أطلقها‏.‏ أو قال‏:‏ والله لأطلقنها‏.‏ إن لم يطلقها فلا شيء عليه، وإن طلقها فعليه كفارة يمين‏.‏

يبقي أن يقال‏:‏ هل تجب الكفارة على الفور إذا لم يطلقها حينئذ كما لو قال‏:‏ والله لأطلقها الساعة ولم يطلقها‏؟‏ أو لا تجب إلا إذا عزم على إمساكها‏؟‏ أو لا تجب حتى يوجد منه ما يدل على الرضا بها من قول أو فعل، كالذي يخير / بين فراقها وإمساكها لعيب ونحوه وكالمعتقة تحت عبده، أو لا تجب بحال حتى يفوت الطلاق‏؟‏ قيل‏:‏ الحكم في ذلك كما لوقال‏:‏ فثلث مالي صدقة أو هدي ونحو ذلك، والأقيس في ذلك أنه مخير بينهما على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضا بأحدهما، كسائر أنواع الخيار‏.‏